يتحمله فيما مضى وبعضها إلى التقليل من شأنه، وبين هذا وذاك هناك من وجد في البيان ضالته بحكم المناخ العام السياسي والاجتماعي مرتئيا أن يكون قاطرة لتوحيد الصفوف أمام جملة من المخاوف على المدى القريب والبعيد لم يفت رئيس الحكومة السابق التركيز عليها.
ولعل بعد كل ما أثارته المبادرة لا بد من طرح سؤال لوضع بيان قائد السبسي في سياق أشمل نجرّده من النوازع الفردية الضيقة وننزع عنه النظرة السياسوية، والسؤال هو: ماذا ينقصنا في تونس حاليا؟
بالتأكيد ينقصنا الكثير ولا يجب أن نخجل عندما نكتشف جملة من الحقائق ونتجرّأ على الحديث عنها إذ لا بد من الاعتراف أنه حينما يطرح سؤال من هذا القبيل تكمن أهميته في الآفاق التي يمكن أن يفتحها وليس لمحاسبة أيّ كان.
في تونس اليوم هناك أزمة ثقة ومثلما تتفاعل كل أزمة وتؤدي إلى انعكاسات وتأثيرات، تحمل هذه الأزمة في طياتها بوادر مخاطر وانشقاقات وفتن، أما إذا أضفنا بقية الأزمات من اعتصامات وعنف على جبهات مختلفة ومحاولة احتواء الإعلام ومشاحنات سياسية في المجلس التأسيسي وخارجه وبداية انشقاقات فعلية في بعض الأحزاب، عندها يتعيّن دقّ ناقوس الخطر، ولا بد من أن ننظر إلى أنفسنا أي إلى أحوالنا في المرآة بتمعّن.
وهناك نقطة يتعين التوقف عندها وهي أن البعض رأى في بيان قائد السبسي بديلا سياسيا في حين أن الكلمة لا تتماشى مع السياق الحالي للبلاد سياسيا واجتماعيا، فها نحن بدأنا نتحدث بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات وشهر من تشكيل الحكومة الائتلافية عن بدائل أو نطرح بعضها.
إن طرح مثل هذه البدائل من شأنه أن يخدم عدم الاستقرار لأنه يماهي منطق الثورة الذي يفترض أن يتوقف تلقائيا بمجرد تنظيم الانتخابات وهو منطق مازال ساريا بل يحكمنا في أكثر من مجال ويتحكم فينا بينما نعجز عن التحكم فيه وترويضه وتطويعه لأهداف أنبل وبالتالي فمنطق البديل يعني ضمنيا عدم ترك الحكومة تواصل مهامها مما يشكل دعوة صريحة إلى انقلاب على العملية الديمقراطية ككل.
ومن بديهيات الديمقراطية وآلياتها -التي نحاول حاليا بناءها في تونس- هي ترك أية أغلبية نيابية أو رئاسية تحكم بلا عراقيل لكن مع المراقبة، بلا إثارة قلاقل أو افتعال المشاكل لكن أيضا مع إعداد حلول وصياغة اقتراحات.
لا بدّ من ترك الأغلبية تحكم حتى وإن أخطأت، وإن كان لا بدّ من الخطإ فلنتحسب له، والاستفادة تكون جماعية أي ليس للحكومة وحدها، كلنا في هذه المرحلة معرضون للخطإ لأننا بصدد البناء، كلنا نجرب الديمقراطية دون أن يعني ذلك أننا نعمل بقواعدها ووفق أسسها، وبالتالي فإن أيّة حكومة في هذا الظرف عرضة للخطإ خصوصا أننا نعلم جيدا مدى تجارب وخبرة طبقتنا السياسية بمختلف أطيافها وألوانها.
انظروا في ما حولكم في تونس بعد عام من الثورة، تمعّنوا في أداء الحكومة والنقاشات في المجلس التأسيسي وكيفية تعاطي الإعلام مع القضايا الكبرى الآنية و»تفاعلات» الرأي العام مع تلك القضايا لتتأكدوا أنه يلزمنا الكثير من الوقت لنتعلم تطبيقات الديمقراطية.. وهذا ليس استنقاصا لقدراتنا، بل هو حافز لنا.
في ظل هذا السياق ارتأى قائد السبسي تقديم خياره ولا نقل البديل، وهي خيار واضح كشف عن أن الرجل حتى بعد مغادرته الحكم يتمتع بتحليل دقيق للوضع العام، بل وضع الإصبع على موطن الداء حينما دعا المجلس التأسيسي إلى التنصيص الصريح على فترة عمله وفترة الحكومة بسنة واحدة والاستعداد لانتخابات عامة في أكتوبر 2012.
وقد أحسن رئيس الحكومة السابق التعرض إلى هذه الإشكالية التي يتخوف منها الكثيرون ولطالما حذروا من دكتاتورية جديدة وهو ما يحمل على الاعتقاد أن قائد السبسي أراد تنظيم صف الأغلبية الصامتة خصوصا أن بعض المظاهر من التشدد والتطرف وبعض التصريحات توحي بأننا سائرون نحو «كبسة» من شأنها خنق الحريات وكبت الأصوات وحمل الجميع على الاصطفاف قالبا واحدا وراء تيار سياسي تمثله النهضة سياسيا وينفذ تفاصيله السلفيون اجتماعيا.
وإذا كان رئيس الحكومة السابق يرغب في إقامة تيار وسط يجمع مختلف القوى السياسية استعدادا للموعد الانتخابي المقبل فإنه ربما لم يدرس واقع الأحزاب جيدا، فهي في معظمها مازالت حديثة العهد، أما في ما يتعلق بالأحزاب الكبرى فهي تتصرف على شاكلة «الأخ الأكبر» الذي يعرف مصلحة غيره ويرعاها (!؟) مثلما كان الاتحاد السوفياتي السابق يتعامل مع بلدان أوروبا الشرقية.
نحن إذن أمام مشروع جبهة سياسية أو حزب وسط كبير تحت التأسيس، ويكون الهدف واضحا خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الكلمات المفاتيح الواردة في بيان قائد السبسي مثل: المسيرة الإصلاحية ـ التوازن السياسي - التداول السلمي ـ التوافق الوطني - آليات الحوار الوطني، وهي عبارات أرادها أن تكون محور البديل الذي يرتئيه.
والبديل الذي يسعى إليه قائد السبسي يخصّ الاستعداد للانتخابات المقبلة، لكن خبرته وحنكته ستكون على المحك لأن جانبا من الأحزاب الكبرى أو العريقة تمثل هي الأخرى في حدّ ذاتها بدائل، ولا شك أن الذاكرة مازالت تحتفظ بسلوكيات تلك الأحزاب قبل انتخابات المجلس التأسيسي حيث تصرفت من منطق ضيّق مع ما رافقه ذلك من انتهازية وزبونية سياسية (clientélisme).
والسؤال هو: هل ينجح قائد السبسي في مسعاه وهل لديه المقدرة على وضع الجميع الذين أبدوا تأييدا لبيانه تحت عباءته؟