في ذكرى الجلاء.. استحضار لقيم التضحية والفداء
بقلم : الحبيب الذوادي - إن قصة تونس واستقلالها قصة طويلة الفصول؛ حزينة الأحداث، تجمع بين البطولة والمأساة، بين الظلم و المقاومة، بين القهر والاستعمار بين الحرية وطلب الاستقلال.
كان أبطال هذه القصة عديد الشهداء إضافة إلى عدد كبيرمن الأرامل والثكالى.
واكبت بنزرت تاريخ تونس السياسي الحديث، إذ أخذت قسطها الوافر في تاريخ الحركة الوطنية وحرصت على أن تكون دوما منطلق الشرارات الأولى لكثير من المعارك الحاسمة التي خاضها الشعب التونسي طيلة كفاحه المرير ضد الحماية الفرنسية و يرجع ذلك بالخصوص إلى احتلال بنزرت موقعا استراتجيا في البحر الأبيض المتوسط جعلها محل أطماع القوى الأوروبية وخاصة فرنسا منذ احتلالها للجزائر 1830، وبعد ان تمكنت هذه الأخيرة من إخماد الانتفاضة الجزائرية، بدأت بذلك تخطط لاحتلال البلاد التونسية عن طريق الجزائر، وقد توفقت الجيوش الفرنسية سنة 1881 من بسط نفوذها على البلاد التونسية ومن ضمنها بنزرت في 1 ماي 1881 بهدف السيطرة على البحر الأبيض المتوسط، ومضيق صقلية، وذلك لأهمية و حسن موقع المدينة الجغرافي وموقعها المتميز الذي جلب إليها أطماع الغزاة لاستغلال موقعها، واعتبرت من ثمة موقعا هاما في الاستراتجية العسكرية الفرنسية مما حفز الإقامة العامة الفرنسية إلى عقد اتفاقية خاصة ببنزرت في مارس 1942، والتي قدمت للباي لإمضائها حيث اعتبرت بموجبها بنزرت ومنشآتها العسكرية وتحصيناتها و مياهها الإقليمية منطقة خارجة عن التراب التونسي الذي خول للفرنسيين اعتبارها ولاية بحرية فرنسية
لم يمض على تاريخ إعلان استقلال بلادنا سوى بضعة أشهر بعد كفاح مرير مع المستعمر حتى عبرت الحكومة التونسية آنذاك أمام المجلس التأسيسي عن رغبة الحكومة التونسية في 1956/11/22 وأملها في أن تحل قضية احتلال الجيش الأجنبي لترابنا على قاعدة المفاوضات و الاتفاق السليم مع فرنسا، وطالبت الحكومة التونسية يوم 1957/02/18 من جديد بالجلاء عن طريق التفاوض مستعملة في ذلك الرصانة.
إلا أن ردة فعل الجانب الفرنسي بدأت تتغير، وإن الشعور بخطر الاحتلال يتجسم مع الأيام خاصة اثرالاعتداء على ساقية سيدي يوسف في 1958/02/8 ،حيث قابلت حينها الحكومة الفرنسية مساندة الشعب التونسي،وأهالي مدينة بنزرت خصوصا القضية الجزائرية بإجراءات تعسفية تمثلت في طرد مرضى ولاية بنزرت من مستشفى البحيرة الفرنسية بسيدي عبد الله الكائن بمنزل بورقيبة، إلى جانب القتل والحصاروتدمير المنازل ...، الشيء الذي دفع الزعيم بورقيبة آنذاك إلى الدعوة والمطالبة بالجلاء التام عن ارض الوطن ، وقد كانت اول بادرة لتحقيق الجلاء على قاعدة اتفاق تم إبرامه يوم 17 جويلية 1958 بين حكومتي تونس و فرنسا غرضه تسوية القضايا العسكرية التي أثارت صعوبات عسكرية بين البلدين.
لكن إلغاء الحماية الفرنسية ، وتمكين تونس من الظفر باستقلالها سنة 1956 لم يضع حدا للحضور الفرنسي في بنزرت ، و لا شك وإن فرنسا وإن اعترفت بالسيادة التونسية على المدينة ، إلا أنها رفضت التفاوض حول نظام القاعدة الجوية والبحرية ، و في هذا الإطار اجتمعت آنذاك لجنة فرنسية تضم ممثلي الجيوش الفرنسية لمعالجة مشكل قاعدة بنزرت . وتقديم الحلول حيث طرحت وضعية بنزرت وذلك إما في إطار دفاعي فرنسي تونسي ، وإما في شكل امتياز. لقد أصبحت بذلك قضية الجلاء شرطا من شروط الحكومة التونسية لا بد من تحقيقه فألقى الزعيم بورقيبة في 1960/01/25 خطابا أمام مؤتمر الشعوب الإفريقية أعلن فيه بداية معركة بنزرت، وازداد الوضع تأزما و تطور تطورا خطيرا لمجرد بلوغ الحكومة التونسية يوم 1961/07/1 ان القوات الاستعمارية بادرت إلى تمديد المسار العسكري ببنزرت دون إعلامها، فبادرت الحكومة التونسية بتبليغ رسالة إلى الجنرال دى غول بهذا الصدد باتت بلا جواب ، وهو ما عكس في أذهان النخبة الوطنية عدم نية فرنسا الخروج من بنزرت في ظرف عالمي بلغت فيه التصفية الاستعمارية أوجهها مما حدا بالديوان السياسي آنذاك في 1961/07/4 الى اصدار بيان يرى فيه ضرورة استعادة بنزرت نهائيا. وتأكيدا لما تقدم و نتيجة لتأكد نوايا فرنسا في الاحتفاظ ببنزرت خصوصا على اثر شروعها في توسيع القاعدة العسكرية الجوية دفع بورقيبة إلى إعلان معركة الجلاء،حيث صرح في خطاب له بتاريخ 1961/07/14 " كلنا على يقين من أن المشاكل بيننا و بين فرنسا انتهت على اعتبار أننا دولة مستقلة... " لم يبق إلا هذه الناحية الصغيرة يجب إخلاؤها و الجلاء عنها... لكن ما راعنا إلا أن نفاجأ بإقامة استحكامات جديدة في قاعدة بنزرت وفتح ممرات لمرور الطائرات و شق الطرقات... وعليه فقد قررنا هذه المرة البدء في معركة الجلاء وعدم الاستعداد لتأجيلها كما حدث في جانفي 1960 "
انطلقت المعركة الدامية يوم 19 جويلية 1961 بين الجيش الفرنسي والجيش التونسي إضافة إلى عديد المتطوعين من أبناء وطننا الذين توافدوا إلى مدينة بنزرت من كامل أنحاء البلاد... والذين قوبلوا بتعزيز القوات الفرنسية ببنزرت بنحو 600 جندي من جنود المظلات ، وبجلبها الكومندوس الذين تم سحبهم من الحدود الجزائرية المغربية و إرسال 18 طائرة إلى بنزرت حاملة للوحدات الحربية ...لتنفيذ جريمتها متناسية أن تونس دولة مستقلة ذات سيادة وأن الوجود الفرنسي غير شرعي .
ورغم أن المعركة دامت 4 أيام فان ضحاياها كانت عديدة اختلف المؤرخون في تعدادها مع تصرف وحشي لجنود المضلات، و تتحدث الصحفية الفنلندية "باولا بوركا" التي زارت بنزرت حال انتهاء المعركة فتقول "إن معركة بنزرت تعتبر حسب رأيي كارثة كبرى بالنسبة للبلدان الغربية التي طالما قاومت الاحتلال أثناء الحرب العالمية الثانية ..."
وخلال تلك المرحلة تم عرض القضية على مجلس الأمن الذي أمربإيقاف القتال في 1961/07/22 وسجلت تونس بذلك انتصارباهر في المجال الدولي، نتيجة لما اظهرته من استبسال وصمود في ميدان القتال من اجل الدفاع عن حقها المشروع ، الشيء الذي أرغم القوات الفرنسية على البدء في سحب قواتها شيئا فشيئا، وبتاريخ 14 أكتوبر 1963 أعلن بورقيبة من أعلى منبرمجلس الأمة آنذاك الجلاء الكامل ، وهب نسيم الحرية يوم 15 اكتوبر1963 على بنزرت حيث رحل آخر جندي عن ترابها و قاعدتها.
لقد اهتزت القلوب خافقة بفرحة الجلاء.
إن الأجيال التونسية المتعاقبة على اثر هذه المعركة لا بد من أن يستلهموا الدروس الخالدة ممن قدموا أنفسهم حينها عربون فداء وأريقت دماؤهم الزكية من اجل أن تنعم الأجيال المتعاقبة بالحرية.
المراجع
- كتاب «هذه بنزرت» للكاتب رشيد الذوادي
- «بنزرت والثورة الجزائرية» : جملة من المقالات للدكتور حبيب حسن اللولب
- مقال تحت عنوان «عيد يدفعنا لمزيد العمل والتضحية» بقلم الحبيب الذوادي ؛ صادر بجريدة الشعب سنة 2007
استاذ وباحث
المصدر = الصباح