- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
غدا تحتفل بلادنا كسائر بلاد المسلمين بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحرصا منّا على طمأنة قلوب المؤمنين وإنارة عقولهم بما يدرأ عنهم الحيرة والاضطراب وما وقد يعرض لهم من الشبهة عن مدى شرعيّة هذا الاحتفال نقول على بركة الله:
1-إنّ البدعة وصف شرعي ثابت عنه صلّى الله عليه وسلّم لكل عمل محدث في المعتقدات والعبادات مخالف لما ثبت بالنّص منطوقا أو مفهوما ولقواعد الشرع ومقاصده. ولايخفى أنّ نزعة الابتداع تسيطر على نفر من المتديّنين وتُزيّن لهم أن يخترعوا من عند أنفسهم أفعالا وأحوالا ثمّ يجعلونها جزءا من الدين يتقيدون بها و يتقربون بها إلى رب العالمين . إلاّ أنّ إطلاق هذا الوصف والحكم على فعل أو قول لم يثبت عن السلف الماضين بلا ضوابط و بدون علم و نظر وتحقيق عمل فيه نقص في العلم والفهم.
و من هذه الأعمال التي يدور حولها النزاع قديما و حديثا وهذه من المسائل الخلافيّة، الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ،فهو و لئن كان أمرا حادثا فعلا في القرون المتأخرة ،إلا أن العلماء قسموا البدعة إلى حسنة وقبيحة وبأن المحدثات تعتريها الأحكام الشرعيّة الخمسة .
قال الإمام النووي : البدعة في الشّرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، و هي منقسمة إلى حسنة و قبيحة .
و قال سلطان العلماء العز ابن عبد السلام « البدعة منقسمة إلى واجبة
و محرمة و مندوبة و مكروهة و مباحة» و الطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد التشريع فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة أو في قواعد التحريم فهي محرمة أو الندب فهي مندوبة،و هكذا...».
والأصل في البدعة الحسنة ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عند جمع الناس للتراويح أنّه قال « نعمت البدعة هذه».
وقد سئل الحافظ ابن حجر عن عمل المولد فقال : أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن السلف من القرون الثلاثة لكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن و ضدها فمن تحرى في عملها المحاسن و تجنب ضدها كان بدعة حسنة . و قد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت و هو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم، فقالوا «هو يوم أغرق الله فرعون و نجّى موسى فنحن نصومه شكرا لله ، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ، والشكر يحصل بأنواع العبادة كالسجود و الصيام و الصدقة و التلاوة ...و إظهار الفرح .و أي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النّبيّ نبيّ الرحمة والهدى في ذلك اليوم
و قال الإمام اليسوطي « وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر و هو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم عقّ عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته
و العقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبي صلى الله عليه و سلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين و تشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك يستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع و إطعام الطعام و نحو ذلك من وجوه القربات و إظهار المسرات».
2- إضافة إلى ما تقدم نقول قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله: «اطلبوا الخير دهركم و تعرضوا لنفحات ربكم فان لله نفحات يصيب بها من يشاء من عباده» ولا شكّ أنّ مولد النبي صلى الله عليه وسلّم هو نفحة من هذه النّفحات الإيمانيّة التي ينبغي استثمارها لتذكيرالنّاس بشعائر الدين وسنّة سيّد المرسلين لا سيّما في هذه الأيّام التي ضعف فيها سلطان الدين على النّفوس وسيطرت الأهواء والشهوات.
3- ولا يفوتنا أن نذكر المؤمنين أنّ حبّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم والعمل بهديه وسنّته هو من شعائر الإيمان ينبغي أن يكون سلوكا دائما للمؤمن وليس عملا موسميّا، كما أنّ الاحتفال والشّكر لا يجوز أن يخرج عن ضوابط الشّرع كالمبالغة في الإسراف والتبذير على المأكولات فلا يعبد الله إلاّ بما شرّع مع التنبيه أنّه ليس عيدا وليست له أحكام خاصّة ولاينبغي الإقتصار فيه على العصائد والقصائد.
4- ومن محاسن الاحتفال بهذا اليوم الحدث العظيم، تذكير الناس بسيرته وسنّته ودعوته، وغرس أخلاق النبوة وقيم الرسالة في نفوس أتباعه لا سيما الذين لا يكتب لهم تعلّم ذلك بسبب التعتيم الديني والتجهيل الرديءوبسبب البعد عن موارد المعرفة الإسلامية.
ولا ينبغي أن يكون هذا مقصورا على يوم ميلاده، بل يظلّ عملا مستصحبا في سائر الأيّام والمناسبات .
ومن رأى خلاف ذلك من إخواننا لما بدا له من توجيه شرعي أو استدلال فقهي فلا ننكر عليه رأيه، وبيننا وبينه أخوّة الدين وأدب الإسلام. والله من وراء القصد.