مقالة مهمة تتحدث عن الاثار ببطرية من معتمدية جبنيانة صدرت بجريدة الشروق يوم 23/10/2009 بقلم السيد جعفر الخماري
***
بُطرية، أو «أكولا» هي الأقدم تاريخيا من بقية المدن الساحلية بالبلاد، ومع ذلك بقيت مجهولة بمكوناتها وآثارها ومعالمها التي تمسح 100 هكتار تقريبا...
«الشروق» تحوّلت الى منطقة «بطرية» لتكشف عن مدينة أثرية تامة المعالم لكنها بقيت مجهولة رغم ما تكتنزه المنطقة من آثار مثيرة!
تقع قرية بطرية على بعد 45 كلم شمال شرق ولاية صفاقس وتابعة إداريا لمعتمدية جبنيانة، وهي مدينة ساحلية تحدها شرقا معتمدية الشابة التابعة الى ولاية المهدية. وتمتد المنطقة الاثرية على مساحة تفوق 100 هكتار.
اكتشاف موقع مدينة أكولا Acholla
أكولا هو الاسم الروماني القديم لقرية بطرية، وقع تداوله في المصادر التاريخية القديمة ومن بعض المؤرخين، وفي بداية القرن العشرين عجز المؤرخون عن تحديد موقع مدينة أكولا الى حدود سنة 1947 حين كشفت الحفريات التي أنجزت بقرية بطرية عن حجر أثري نقشت عليه كتابة تحمل عنوان: شعب أكولا Populus Achollitanas.
ومن ناحية زمنية تعتبر أكولا الاقدم تاريخيا من بقية مدن الساحل التونسي وهو ما تؤكد اللوحات الفسيفسائية التي يعود تاريخها الى القرن الاول قبل الميلاد.
تأسيس المدينة في العهد البوني
حوالي القرن الرابع قبل الميلاد تم تأسيس مدينة أكولا من طرف مهاجرين قدموا من جزيرة مالطة وبتأييد من القرطاجيين. وخلال العهد البوني اعتمد سكانها على اللغة والعادات والتقاليد الفينيقية كما عرفت صك العملة المأخوذة عن القرطاجيين وهو ما تؤكد القطع النقدية التي كشفتها الحفريات والتي تحمل صورة رأس الإله القرطاجي بعل حمون يحمل تاجا من الريش الى جانب العثور على نصب تذكارية للآلهة الفينيقية تانيت.
أكولا خلال العهد الروماني
خلال الحرب البونية الثالثة التي امتدت من سنة 149 قبل الميلاد الى سنة 146 قبل الميلاد وقفت مدينة أكولا الى جانب روما في حربها ضد قرطاج.
وبعد تحطيم قرطاج أصبحت أكولا مدينة مستقلة. كما تحالف سكانها مع الامبراطور الروماني يوليوس قيصر عندما نزل سنة46 قبل الميلاد بشمال افريقيا في حربه ضد يوبا الاول ملك نوميديا (شرق الجزائر). وعندما استقر هذا الامبراطور الملقب عصرئذ بملك البحر بجزيرة قرقنة (Cercina) استفاد سكان أكولا من هذا الحدث واستثمروه لتطوير تجارتهم البحرية رغم المنافسة التي تعيشها أكولا مع بقية المدن المجاورة مثل حضرموت ولبدة لتشهد مزيدا من النجاحات خلال القرنين الاول والثاني ميلاديا وتبلغ أوج ازدهارها الحضاري بفضل موانئها التي مازالت آثار أرصفتها على ساحل البحر المتوسط شاهدة على تاريخها العريق.
وعرفت المدينة صك العملة خلال العهد الروماني بداية من القرن الاول ميلاديا وذلك في عهد الامبراطور اغسطوس الذي حكم من سنة 29 ق.م الى سنة 14 ميلاديا. وارتقت في التنظيم الاداري الى مرتبة المدينة ـ البلدية حيث يتمتع سكانها بحق المواطنة الرومانية ويحكمها الدستور الروماني ويدير شؤونها المجلس البلدي المتكون من الحكام البلديين من صنف القناصلة.
وتحتوي مدينة أكولا على عدة وحدات أثرية. آثار الموانئ مازالت قائمة على الشاطئ تصارع الأمواج وتؤرخ لفترة زمنية قديمة. وفي مدخل المدينة الاثرية توجد حمامات الامبراطور الروماني تراجانيوس والتي تحتوي على عدة قاعات أبرزها قاعة مستطيلة الشكل يبلغ طولها 30 مترا وعرضها 13 مترا الى جانب ثلاثة أحواض سباحة.
أما القسط الاكبر من الاثار التي تم اكتشافها فيتمثل في منزل القنصل وهو أحد أعضاء مجلس الشيوخ بروما تم تعيينه قنصلا سنة 184 ميلاديا ليدير شؤون المدينة واسمه «أسينيس ريفينيس Asinius Rufinus وهو ما تبرزه الكتابة الموجودة على النصب التذكاري بساحة الفوروم والذي يروي قصة حياة هذا الحاكم.
أما الفوروم فهو ساحة مبلطة تتوسط المدينة تنتهي بجدران لم يقع الكشف عما وراءها بعد أن توقفت الحفريات الاثرية.
كما يوجد نفق قامت الجهات المعنية بغلقه بأبواب حديدية ضخمة يعتقد أنه يؤدي الى مدينة الجم تحت سطح الارض.
أما الجهة الشمالية فتضم آثار معبد الكابتول الذي يضم تماثيل الثالوث الرسمي للديانة الرومانية وهي الآلهة: يوبيتار ويونو ومينروا.
وفي الجهات الغربية مازالت آثار المسرح الدائري واضحة المعالم حيث يحتوي على حلبة صراع ومدارج محيطة بها. في حين لم يتم الكشف عن الحجرات الموجودة تحت الارض والتي تأوي عادة الوحوش المفترسة، لأن هذا النوع من المسارح الدائرية يختص بالأساس في المبارزة بين مختلف الوحوش الضارية أو المجابهة بينها وبين مصارعين محنكين. ويعكس هذا النمط من العمارة مستوى الرفاهة والازدهار الاقتصادي الذي بلغته مدينة أكولا وتسابق الوجهاء والأثرياء من أجل تشييد هذه المعالم الترفيهية.
اللوحات الفسيفسائية
تعتبر هذه اللوحات من أقدم الفسيفساء الموجودة بالبلاد التونسية وهي عديدة ومتنوعة حيث تم تخصيص قاعة لها بمتحف باردو، وهي آثار تروي حياة الطبقة الأرستقراطية من الأهالي وأصحاب القصور إذ تزين الفسيفساء جدران وأرضية منازلهم. ومن أهمها لوحة الإله ديونوزيوس وقوس النصر للإله نبتون ولوحة جراد البحر وهو ما يقيم الدليل على الأهمية البالغة لهذه اللوحات الفسيفسائية والتي مازالت نسبة هامة منها موجودة تحت أنقاض مدينة بطرية.
أكولا خلال العهد البيزنطي
خلال العهد البيزنطي خضعت مدينة أكولا للديانة المسيحية وهو ما تبرزه الكتابات الموجودة بمجلس المدينة.
وتذكر المصادر التاريخية بعض أساقفة المدينة الذين نالوا شهرة بشمال افريقيا مثل: ريستتيس سنة 484 ميلاديا وقينتيس سنة 641 ميلاديا، كما كشفت الحفريات الاخيرة وجود آثار لبيت العماد قريبة جدا من الشاطئ وبها حوضي سباحة وعدة قبور مسيحية احداها مغطاة بلوحة فسيفسائية تحمل مصطلحات وكتابة دينية.
اختفاء المدينة
في نهاية العهد البيزنطي انعدم الأمن وقاست أكولا كثيرا من بطش شعب الماواريين (قبائل بربرية) الذين نهبوا المدينة فهجرها أهلها قبل الفتوحات العربية الاسلامية لتقوم العوامل الطبيعية بدفن مدينة أكولا تحت التراب.
وقد اندثر هذا الاسم القديم للمدينة وبقي موقعها مجهولا لأنه لم يعثر على اسم أكولا في أي مؤلف لأي مؤرخ أو جغرافي خلال العصر الوسيط.
بطرية الاثار المنسية
لماذا تصر ادارة التراث على غلق أبواب المدينة الأثرية في وجه الزائرين والتلاميذ؟ولماذا توقفت الحفريات منذ أمد بعيد ولم تستأنف؟
ولماذا لا يتم الكشف عن كل مكونات آثار قرية بطرية لعلها تصبح متنفسا او منتجعا سياحيا لأبناء ولايتي صفاقس والمهدية. في وقت نحتاج فيه الى زيارة مواقعنا الاثرية في ظل الاجراءات المشجعة على السياحة الثقافية. ولماذا لم يتم النظر في المشكل العقاري لأراضي سكان قرية بطرية إذ تم منعهم من بيع أو حرث أو استغلال أراضيهم بدعوى أنها على ذمة ادارة التراث. فالحفريات توقفت منذ أمد بعيد وازدادت معها معاناة الأهالي أكثر من اللازم وطال انتظارهم لتبقى آثار بطرية في طي النسيان.
الشروق ـ مكتب صفاقس:تحقيق: جعفر الخماري