مقدمــــــــةنقلت اليكم هذه الدراسة الادبية -
ملاحــم شعبيـــة: «ربح» في شعر شبيل الجبراني - من موقع * الزمن التونسي * باعتبارها تتناول مقتطفات من شعر شبيل الجبراني احد ابناء معتمدية جبنيانة وباعتبار ان كاتب المقال هو ايضا ابن الجهة وتحديدامن منطقة القلالجة وهوالاخ محفوظ الزعيبي وكذلك تماشيا مع الخط التحريري للمنتدى وهو جمع وذكركل الجوانب الايجابية والابداعية لابناء الجهة قديما وحديثا وبيان ما تزخر به معتمدية جبنيانة من طاقات وارضية ملائمة لمزيد التطور والنمو بفضل إرادة وعزيمة ابنائها إذا ما تحققت العدالة عند برمجة وإحداث المشاريع وتوزيع الثروات./.
ghazzaa
ملاحــم شعبيـــة: «ربح» في شعر شبيل الجبراني
لم يهتم الدارسون وهم قلة في حقيقة الأمر بشعر – شبيل الجبراني – أو كما يطلقون عليه – شاعر المثاليث-.. ولم يجمع شعره في ديوان لأنه مشتت وتعرض أغلبه للتحريف وعبث المغنين المتطفلين من الشعراء الشعبيين، ولم يعد يحفظه إلا البعض أمثال أحفاده رغم صيته وشهرته..
وشبيل الجبراني من مواليد – الجبارنة - بجبنيانة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتوفي سنة 1964 وهو أحد الشعراء الفحول الأربعة الذين تربعوا على عرش الشعر من نفس الجيل وهم : عبادة السعيدي وامحمد الصغير ساسي ومحمد بن فرحان الذي يصغرهم بقليل.. وشعر – شبيل – يتسم بغزارة اللفظ وقوة التعبير وثراء المعاني ودقة الصورة، وتناول أغراضا كثيرة مثل : الفخر والغزل والبرق والركب والنجوع والمفكر، وكان يتعفف عن الهجاء، ويتنزه عن المساس بأعراض الناس لشهامته، وحسن سجاياه البدوية.. وتظل القصيدة الغزلية من أروع ما قاله – شبيل الجبراني – في حبيبته –ربح- التي تعرف عليها صدفة عندما استدعي للغناء في عرس في جهة – بوفيشة – بطريق السلوم.. وتقول القصة أنه عندما نزل مساء في أطراف الحي، شعر بالعطش الشديد، فلمح فتاة فوق الماجل لاستخراج الماء، فتوجه نحوها، وقد انسدل شعرها الفاحم، فلما وقفت وأزاحته إلى الخلف، كشفت عن وجه صبوح كالقمر، وعينين سوداوين مضيئتين، وأسنان بيضاء كحبات البرد.. وهزت الريح ثوبها فقال مباشرة :
الغيم كثح دار صحاحير في نهار كبير
جي قاسي بوجرد حرير
واندهش لهذا الجمال العارم، والأنوثة الصّارخة، وبقي جامدا لا يتحرك، ولا يدري ما يقول أو يفعل... وفي السهرة خرج ليغني في المحفل وكانت المفاجأة أن يرى – ربح – أماما عينيه في الصدارة ترمقه وتتابعه وتتفاعل مع غنائه وشعره.. وقد ظهرت في أفخر حلي ولباس، وفازت بحسنها على كل الحاضرات.. وكان التجاذب بينهما مثيرا حيث شعر أهلها بتجاوبها، وخوفا من العاقبة والفضيحة حاولوا إثناء – شبيل – عن اللقاء بها والحديث معها، وشيعوه في آخر الشهرة إلى محطة القطار في اتجاه صفاقس... لكن – شبيل – ظل متعلقا بصاحبته، لا يغيب طيفها عن خياله، فبمجرد الوصول إلى سوسة نزل من القطار وقفل راجعا إلى جهة بوفيشة وإلى ذلك الحي الذي ترك يه – ربح – مكتوية بنار الحب.. ويقول بعض الرواة أنه لما نزل هناك أخذ يترصد من بعيد وهو يتقدم خفية نحو ديارها إلى أن بدت على مسافة قريبة منه.. وعند المغيب استنجد بأحد الرعاة لمؤازرته في الوصول إلى - ربح – وتوفير اللقاء معها.. لكن لسوء الحظ أحسّت الكلاب بذلك الغريب ولم تكف عن النباح، فاستنفر أهلها وباتوا يقظين ولم يناموا إلى الصباح، ولما خاب مسعاه عاد من حيث أتى وانفجرت قريحته بأروع الشعر ومنها – الملزومة – المشهورة :
متوحش لا ريت وهامك يا زين المرصوع
يهبهبلي وحشك وغرامك يغصايص ودموع
وهي التي غناها بعد ذلك المرحوم الفنان الشعبي : اسماعيل الحطاب في البرنامج الإذاعي – قافلة تسير – وفي الحفلات التي كان يقيمها.. وفي رواية أخرى قيل أنه اجتمع بها في تلك الليلة وتبادلا لواعج الحب وتواعدا على الفرار والزواج، ولكنهما فشلا في ذلك عندما أصبحت – ربح – تحت الرقابة والحراسة المشددة.
ويطول الفراق، ويظل الشاعر الفحل في منأى عن – ربح – لم يلتق بها ولم يبثها حرمانه وحرقة نيرانه إلا من بعيد وهو يعاني الوحشة والغربة :
متوحش كبدي معطوبه تعود ناري لهابه
طوق وحشك بعثاليبه وجي مطوق بسحابه
ولكنه لم ييأس، بل ظل الأمل يراوده، رغم خطورة المغامرة لأنه عزم على الاتصال بها مهما كلفه ذلك، وهو يدرك أنه سيخرج عليها هذه المرة في صورة الفارس الذي يمتطي صهوة الجواد، وسيشق – الضحضاح – بما فيه من خلاء وفياف وأخطار الطريق :
ضحضاح يبانو علابيبه يرعب شين ضبابه
بر موحش عالي رواقيبه يصعب عالزغابـه
يشقه كان قزين حليبتـه كيف امبزغ نابـه..
واختيار – شبيل – للحصان لم يأت مجانا، وإنما كان ذلك بإرادة منه ليعبر للحبيبة أنه أصيل.. ومتمرس على ركوب الخيل، وأن امتطاء الحصان بالنسبة إليه أفضل من ركوب القطار.. وربما عبر عن نيته في اختطاف – ربح – واصطحبها معه لأنه على يقين من هيامها به، ومبادلته هذا الحب العاصف، وانتظاره على الجمر للقيام بهذه الرحلة فكان وصفه للسرج يدعم ويتمم ما يجب على الفارس إحضاره واستخدامه في مغامرته التي يتحدى فيها أهلها، وكان على أتم الاستعداد للتعرض لكل الاحتمالات بما في ذلك القتل ك
والسـرج مكلـف ترتيبـه نزهـة للركابــه
عليه نوصل زين التعصيبه ولفي سود هذابـه
الما يغامر ما ينال حبيبـه وما يقروش حسابه
العاتـي يتلقـى للشيبــه يبيع الراس صبابه
ثم يكب في آخر – العرف – للعودة بالقافية إلى رأس – الملزومة –
لو نبدا مقطع قدامـك ما ثماش رجـوع
تحيير منامي ومنامك جي برك مقطـوع
متوحش لا ريت وهامك
في هذه القصيدة تجنب الشاعر ذكر اسم –ربح- رغم انه كان يعنيها بالذات.. وفي رأيي أنه في بداية هذا الحب، ما زال متماسكا، شديد البأس، ويمنعه كبرياؤه من الإذعان السريع والانبطاح أمام بابها، ولكنه أراد أن يتقلد سمات الفارس الشجاع الذي إن عزم لن يتخاذل، وإن قرر لن يتراجع، وأن يجعل لهذا الحب مهرا غاليا لا يخلو من المشقة والعذاب والخطر ووصل به الاستعداد لدفع ضريبة الموت إن لزم به الأمر.. ولكن هذه –الفرسنة – تخبو جذوتها شيئا فشيئا عندما يطبق اليأس على نفسية الشاعر.. ويخفت الأمل تدريجيا مع طول الفراق والبعاد، وتعتريه الهواجس وتحدثه عن احتمالات كثيرة أغلبها سيئة ومنذرة بأخبار أليمة وسوداء.. فيناجي المحبوبة صارخا مناديا بإسمها بدون تستر أو غطاء وهو في حالة يرثى لها من الانهيار العاطفي :
يا ربح غرامك درباني سلطني عالموت رماني
وتستمر المناجاة في قصيدة –ربح – كاشفة انكسار الشاعر، ووقعه في فخ هذا الحب الذي حاصره وأطبق عليه، فلا نجاة منه ولا قدرة على التخلص من شباكه :
يا ربح فراقك ما شتى خلى جواجيه محطوطه
وطيتـه لا بى يتوطى ديما حايزني في الخوطه
نزل حبك على قلبي حطه يتبع في درجاح خيوطه
ثم يتطرق إلى العراقيل التي تمنعه من الوصول إليها فإضافة إلى الفراق فإن أهلها أصبحوا شاعرين بالخطر واتفقوا على التصدي لكل من تسول له نفسه بالنيل منها أو مداهمة الحي.. ويصب الشاعر عرجام حقده ونقمته على – الحارز – أي الغيور عليها المكلف بحمايتها أو أحد أقربائها من الذين ينوون الزواج بها واضعا سدا أمام غيره من الخطاب والعشاق :
يا ربح الفرقة ما صعبها مالقيتش باش نعاناها
عا اللي محيوزه في عربها صغيره والحارز قاساها
ويلتمس لها الأعذار لأنها ما زالت صغيرة السن ولا حول لها ولا قوة أمام القيود المفروضة عليها والحصار المطوق بها، ويمنحها المعذرة لأنه واثق من محبتها له، مذكرا بالسهرة التي غنى فيها، وقد تجلت في الصف الأول أمامه متفاعلة مع كل كلمة ينطق بها حتى أنها ظلت ساهرة إلى آخر الليل وأغمي عليها وكاد العرس يتوقف ويفسد :
نتوسل بكلامي للها من غير مروة ندرباها
نفهمها عل قد عقلها تفهمني بمعنى ونباهه
لتقعد من تالي نحولها وقدام المحفل نلفاها..
ثم يدرك أن الشكوى لله وحده.. ما دام الآخرون لا يعبؤون بتوسلاته، ولا يقاسمونه عذابه وتباريحه، خاصة أنه لا ينتسب إلى أهلها ولا تمت له أي صلة قرابة ورحم بهم، ومهما كان حبه وهواه مخلصا وصادقا فسيلاقي منهم الصد والجفاء وسيعاملونه كغريب ودخيل عليهم :
يا ربح الشكوى للعالي وحليل العاشق براني
يا ربح غرامك درباني..
وهكذا عاش الشاعر محروما من وصال – ربح – رغم ان أخبارها ما زالت تأتيه مشحونة بالعاطفة الجياشة، وعلم بزواجها وتحولها للسكنى في تونس العاصمة، فتدهورت حالته وازدادت محنته، وساءت ظروفه الاجتماعية وثقلت عليه العيال ليعيش في خصاصة وضنك عيش، وكاد من جراء ذلك أن ينسى – ربح – لتصبح ضربا من الماضي ومجرد ذكريات خابية تحت رماد السنين وفوات العمر.. وشاءت الأقدار أن يظل عليه المرسول بعد زمان طويل حاملا إليه أمانة غالية من – ربح – فاشتم رائحتها، وأثارت في نفسه غمرة تلك الأيام الخوالي بهجرها وصدها وتبتلها، وكانت المرأة في ذلك العهد تبعث إلى حبيبها العاشق خصلة من شعرها تذكارا بينهما ليحافظ عليها مدى الحياة عربون وفاء ومحبة.. و-السالف- هو جزء من مقدمة الشعر تغنى بذكره كثير من الشعراء مثل قول أحدهم عندما ضيع سالف – شلبية – حبيبته :
سالف مرجاح جاني في ضيق عشيه
من جيبي طاح آش مش نقول لشلبية..
وكان شبيل يتناول مع المرسول العشاء عندما قدم له هذا الضيف الأمانة.. فلم يستطع مواصلة الطعام، فتأزم وضاقت به الحياة وكاد يغمى عليه ثم أفاق وأطلق صيحة مدوية وتنزلت ليه هالة الشعر قائلا :
خبر لجاني على غفلة لفي ادردر خاطري بعد ماصفي
خبر لجاني عالهوى مرغوب وخلى فكري بمحنته مشغوب
وتمادى في هيضته إلى أن أتم القصيدة.
ومن عادة الشعراء الشعبيين أن يختموا قصائدهم بالاستغفار وطلب العفو من الله والعودة إلى التقوى والجادة بعد الطيش وسنوات الضياع، والتفكير عما اقترفوه في عهد الفتوة والشباب من ذنوب، وإعلان التوبة في كل شيء حتى عن الحب الذي يدخل في هذا المضمار، فيتصور المحب كأنه ارتكب خطيئة أو اقترف ذنبا يتطلب منه رجاء الصفح والمغفرة.
فإن كانت – عائشة – في شعر –امحمد الصغير ساسي – وفي قصائد – عبادة السعيدي – هي المحبوبة الأولى بين سائر الحبيبات فإن – شبيل الجبراني – ظل محافظا على ديمومته مع – ربح – ولم يخص واحدة أخرى تنغص عليه هواه العذري أو تحوز مكانا آخر في قلبه، لهذا عاش طيلة حياته متيما بها، ورغم أنه حاول النسيان وطي صفحة الماضي ليقضي ما تبقى من العمر خالي الذهن، صافي التفكير لكنه لم يستطع فتلبدت غيوم المحبة في سمائه ولم يتحمل الصدمة التي آلمته، والمفاجأة التي عكرت صفو خاطره، وعادت إليه صورة الحبيبة من جديد أشد على نفسه وأنكى لأنه كان مجبولا على الوفاء والإخلاص.
بقلم : محفوظ الزعيبي