أولياء الله: سيدي أبي اسحاق الجبنياني: امتهــــن الطـب وجمــــــع بيــن الثروة والعلـــم والبعض اتهمـــه بـ «اليهــودية»؟
* (الشروق) ـ مكتب صفاقس
ولد أبو إسحاق الجبنياني في أواخر عهد الدولة الأغلبية سنة 280 هجريا الموافق لسنة 892 ميلاديا وهو إبراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم البكري وينحدر من قبيلة بكر بن وائل من ربيعة احدى أكبر القبائل العربية التي كانت تقطن بشبه الجزيرة العربية ببلاد الحجاز وفدت الى إفريقية مع الجيوش الاسلامية التي فتحت البلاد التونسية.
نشأ أبو إسحاق في عائلة جمعت بين الثروة المادية والعلم إذ كان أهله من أصحاب الخطط بالقيروان خلال الدولة الأغلبية حيث تقلد أفرادها عدة مناصب مرموقة سواء في الميدان السياسي أو القضائي أو الإداري.
ولهم مسجد يعرف بمسجد أسلم نسبة الى الجد الأعلى للعائلة. وقد كان جده من أصحاب الإمام سحنون قاضي القيروان وأحد أبرز دعاة المذهب المالكي وعندما تولى القضاء بمدينة صفاقس بنى جامعها وسورها المشهور الى جانب بناء المحرس (الذي يعرف بمحرس علي على بعد 30 كلم جنوب مدينة صفاقس).
أما أحمد بن علي والد أبي إسحاق فقد تولى خراج إفريقية (جمع الضرائب) بجهة صفاقس وورث أملاك أبيه وضيعاته الشاسعة بما في ذلك أراضي جبنيانة.
تكوينه
تتلمذ أبو إسحاق الجبنياني على يد أحد الشيوخ يدعى إبن عاصم الذي اشتهر بالعبادة.. فتعلم عليه وتأثر به ليختار مسلك الزهد والتعبد بعيدا عن ثروات والده المشكوك في مصدرها، وقد جمع هذا الشيخ عدة خصال نبيلة أهمها التكسب بالحلال والبحث عن المعرفة والاصرار على طلب العلم وكما قيل عنه «لا يسمع بعالم إلا أتاه ولا برجل صالح إلا بلغه».
فقد طاف بعلماء الساحل ورجاله الصالحين ثم بدأ رحلته بحثا عن العلم في مختلف أرجاء العالم الاسلامي عصرئذ والنهل من العلوم الفقهية والدينية حيث درس بجامع عقبة ابن نافع بالقيروان كما ارتحل الى الشام والحجاز وبغداد خلال العهد العباسي ثم عاد الى جبنيانة التي اختارها طواعية للاستقرار بها نهائيا. وعندما سأله إبنه الطاهر «لمَ اخترت سكنى جبنيانة دون غيرها» أجاب «لقد أردت أن يخلد اللّه لها ذكرى لأني رأيتها من أقل القرى ذكرا وشهرة».
نشاطه
استقرّ أبو إسحاق فترة هامة من حياته بجبنيانة يعلم الصبيان ويستقبل العلماء وانصرف الى حياة الزهد والعبادة فكان بسيطا في لباسه ومأكله. كما امتهن الطب واستفاد منه سكان المنطقة الذين أطلقوا عليه عدة ألقاب أهمها لقب الزناد القادح والقطب الرباني والغيث الصمداني. كما يشبهونه بباي الأمحال وهي ألقاب جاءت متأخرة خلال الدولة الحسينية وذلك من باب التقدير والتوقير. وإن كانت ولادته في أواخر الدولة الأغلبية ذات المذهب السني إلا أنه عاش أغلب حياته خلال عصر الدولة الفاطمية ذات المذهب الشيعي ورغم ذلك فقد اشتهر أبو إسحاق الجبنياني بتمسكه بالمذهب المالكي إذ كان من المتأثرين بمذهب الامام سحنون قاضي القيروان وصمد في مواجهة الدعوة الشيعية ومختلف مذاهب فرق الخوارج التي انتشرت بشمال إفريقيا في تلك الفترة الحرجة.
وقد زادت شهرته بمرور الزمن حيث قال عنه تلميذه أبو القاسم اللبيدي في كتابه «مناقب أبي اسحاق الجبنياني» «لو فاخرنا بنو اسرائيل بعبّادهم لفاخرناهم بالجبنياني».
ويمكن القول أن شهرة مدينة جبنيانة انطلقت مع شهرة هذا الولي الصالح الذي توفي عن سن متقدمة سنة 980 ميلاديا الموافق لسنة 369 هجرياحيث عاش ما يناهز 89 سنة.
ودفن شرقي مقبرة جبنيانة ثم وبمرور الزمن تكونت زاوية أبي إسحاق التي استندت الى أوقاف وأملاك عديدة علها كانت أملاك والده وقامت هذه الزاوية بدور كبير في نشر التعليم الديني بالجهة إذ تحتوي على مدرسة بها أحد عشرة بيتا الى جانب عدة غرف ومسجد مازال قائما الى الآن. كما تعود أغلب الأراضي والغراسات والبساتين بجبنيانة الى أوقاف الولي أبي اسحاق وكان السكان يحيونها على وجه المساقاة فيدفعون ثلث المنتوج الى الزاوية وأحيانا الخمس، وفي نهاية القرن التاسع عشر تكونت جمعية الأوقاف ومهمتها الاشراف على الأراضي والممتلكات التي تعود الى زاوية هذا الولي الصالح.
وخلال الحقبة الاستعمارية وفي سنة 1925 أصبحت جبنيانة قيادة (ما يشبه الولاية اليوم) وكان أول قايد بها هو العلامة حسن حسني عبد الوهاب الذي بقي بها الى سنة 1928 وساهم في إمضاء اتفاقية بين الأهالي من جهة وجمعية الأوقاف من جهة أخرى وذلك بمقام الولي أبي إسحاق وفيها اعتراف متبادل بين مختلف الأطراف للإشراف والانتفاع بمداخيل أوقاف الولي أبي اسحاق الجبنياني.
ما بقي في الذاكرة الشعبية
ماذا قي في ذاكرة أبناء جبنيانة من تاريخ أبي اسحاق؟ سؤال طرحته «الشروق» على أكثر من شخص فجاءت الاجابات متشابهة بعض العادات والتقاليد والاعتقاد أحيانا في بركة هذا الولي الذي حمل مهرجان جبنيانة اسمه الى جانب «الزردة» وهي أحد أركان المهرجان الصيفي وقد تسبقه زمنيا، وتتمثل عادة في ذبح الخرفان وإقامة الوليمة للاستسقاء وطلب الغيث النافع.
في حين يعترف البعض بفضل هذا الشيخ على مدينة جبنيانة ويصبح الاقتداء به أمرا غير قابل للنقاش، إذ قضى أبو إسحاق الجبنياني حياته متنقلا بين المشرق الاسلامي وبلاد المغرب طلبا للعلم، وساهم بقسط كبير في نشر التعليم ورفع الأمية بجهة صفاقس عامة في فترة عصيبة من تاريخ تونس تميزت بانتشار الخرافات وتراجع العلوم، كما عمل هذا الشيخ على مساعدة الفقراء والأيتام وأنفق ثروته التي ورثها عن أ|جداده من أجل إسعاد المحتاجين كما اشتغل بالطب ليخفف عن المرضى آلامهم دون مقابل مادي.
أبو إسحاق ليس يهوديا
ادعى فيكتور كوهين على أحد المواقع الالكترونية بشبكة الأنترنات أن شخصية أبي إسحاق الجبنياني تعود الى أصول يهودية بمدينة صفاقس مستندا الى انتشار هذا الاسم في الأوساط اليهودية غير أن الأستاذ عبد الواحد المكني دكتور التاريخ المعاصر بكلية الآداب بصفاقس ومن باب الانتماء الى معتمدية جبنيانة ودفاعا عن الحقائق التاريخية فنّد كل تلك المزاعم ورد بقوة الحجة التاريخية على أصحاب هذه الادعاءات.
حين كتب مقالا في نفس الموقع الالكتروني جاء فيه بالخصوص: «إنها معركة للتاريخ وليست من أجل أبي اسحاق الجبنياني.. فالأسماء مثل اسحاق ومريم.. تشترك فيها كل الشعوب السامية، وان المعطيات وتاريخ الولي أبي اسحاق يقيم الدليل القاطع على أنه شخصية عربية اسلامية دافعت على المذهب المالكي في إفريقية في زمن تزايد فيه نفوذ الشيعة الفاطميين.
http://www.alchourouk.com
TuniPresse 2009-08-26