الإسلام لا يتعارض مع الحداثة التكنولوجية.
الحداثة مفهوم حضاري شمولي يطال كافة مستويات الوجود الإنساني حيث يشمل الحداثة التقنية والحداثة الاقتصادية وأخرى سياسية وإدارية واجتماعية وثقافية وفلسفية إلخ...
تتميز الحداثة بأنها تحول جذري على كافة المستويات : في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي معنى التاريخ، إنها بنية فكرية كلية، وهذه البنية عندما تلامس بيئة اجتماعية وثقافية تقليدية، فإنها تصدمها، وتكتسحها بالتدريج.
الحداثة هي حركة اجتماعية تاريخية كاسحة حدثت في الغرب، اكتشفت عبرها قوانين الطبيعة والكون والاجتماع والتاريخ واللغة، ومستكشفات لا نهاية لها، مجاهل الكون والمادة والنفس، واللامتناهي الصغر، واللامتناهي الكبر، وهذه الرؤية مرتبطة بمكاسب الحداثة، وقدرتها على اكتساح العالم، لأن من طبيعة الحداثة الانتشار والاكتساح، ولأن مكتشفاتها تتطلب أسواقا وفاعلين، وهذا الاختيار يتم في الغالب عن طريق القوة، كما حدث مع الاستعمار، والذي يعتبر حدثا تاريخيا انتشرت معه الحداثة بوجهيها الاستعماري والتحريري، ولعل القدرة الإغرائية للحداثة لا تقل جاذبية واستقطابا عن قوتها النظرية أو الفعلية، فهي تقدم خدمات، وتقرب المسافات، وتشفي الأمراض، وتقوم بما يشبه المعجزات، كجعل الأعمى يبصر، والأبكم يتكلم إلى غير ذلك، أي أن ما كان يتعلق بالسحر أصبح اليوم أو انتقل إلى العلم، رغم أنه مازال في بداياته الأولى، كما هو شأن الثورة الجينية والمعلوماتية.
صراع الحداثة مع التقليد :
وفي هذا المستوى الثقافي تصطدم الحداثة مع الثقافات التي تأخرت عن المواكبة، إذ تحاول اجتذابها وإدخال التكنولوجيا وفكر الحداثة إليها، وهنا تحدث المصادمة مع الإسلام على المستوى الصراعي، وبالمقابل تبدي الثقافات التقليدية ممانعة قوية، لأن الحداثة تهدد التقليد وتفككه، كما توسّع من هامش الحرية، إذ تنادي الحداثة بحرية واسعة، حرية الأخلاق، وحرية السلوك.
إذن، على المستوى التصادمي يصبح الصراع حتميا وموضوعيا، ولا يستطيع أي واحد أن ينزع شوكته، فالتقليد كيفما كان إسلاميا أو بوذيا أو كنفوشيوسيا يدخل في صراع مع الحداثة بمستويات ودرجات مختلفة في الجانب الفكري أكثر منه في الجانب التكنولوجي.
الإسلام لا يتعارض مع الحداثة .
لكن هناك مستوى ثان لهذه العلاقة، وهو أن الإسلام كبنية عقدية وفكرية واجتماعية وتاريخية لا يتعارض مع الحداثة التكنولوجية لكونه دعوة إلى التطور والتقدم وفهم العالم، واعتباره بمثابة اختبار، كما أن التراث الإسلامي من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مليء بالجانب الإيجابي للمعرفة، والتاريخ يشهد على أن الإسلام بنى إحدى أكبر الحضارات البشرية، وغزا العالم بعد أن استوعب التراث اليوناني، إذ لم يكن لدى المسلمين عقدة نقص.
أما أكبر مشكل يواجه الإسلام فهو أن فهمنا له وتأويلنا له لم يجدد، فالمسيحية تجددت وخضعت لتأويلات جديدة، في حين أن الثقافة الإسلامية مازالت تعيش على تأويلات القرون الهجرية الأولى، إن التحولات الكبرى في العالم في ميدان الفكر لم تنعكس في الثقافة الإسلامية التي ما زالت لا تقبل التطور والاجتهادات.
الإسلام يتعارض مع الحداثة الفكرية :
أما حركة التحديث الفكري والثقافي عند أصحابها ومن يروجون لها فهي تمثل الانفصال عن الذات الحضارية والاندماج في العالمية الغربية، ولا شك أن العالم الإسلامي لا يتقبل الصورة «الفجة» للحداثة الثقافية المتصلبة وبخاصة حين تعبّر عن هذه الرؤية عن نفسها في مبدإ الإزاحة الكاملة للدين والوحي من حياة الأفراد والمجتمع والدولة.
كذلك لا يتقبل المسلمون دعوة «الحرية» الفردية والاجتماعية المرسلة بسبب ما يمكن أن ينجم عنها من مساس بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية، وعندهم على وجه العموم أن هذه الدعوة لا تعني إلا التحلل الجنسي والتفكك الأسري والفساد الاجتماعي، ولم يتمثل حركة الحداثة الفكرية والثقافية العلمانية في كونها استطرادا مغلوطا مقصودا فحسب، جاء لإعاقة النمو الطبيعي للانبعاث والنهوض وغير معبّر عن حاجة حقيقية للمجتمعات الإسلامية، بل في كون هذا الاستطراد المغلوط المقصود كان رديئا لأنه استنسخ من الغرب أتعس منتجاته الثقافية وهي الصراع بين الدين والعلم ثم الصراع بين الدين والدولة.
صفوة القول : إن الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم من غير المسلم علم الكيمياء، أو الطبيعة، أو الفلك، أو الطب، أو الصناعة، أو الأعمال الإدارية وأمثالها... ولكنه لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته، ولا مقومات تصوره، ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولا منهج تاريخه، وتفسير نشاطه، ولا مذهب مجتمعه، ولا نظام حكمه، ولا منهج سياسته، ولا موحيات فنه وأدبه وتعبيره، من مصادر غير إسلامية.