لمحة تاريخية ضافية عن مدينة جبنيانة كتبها إبنها الدكتور عبد الواحد المكني أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس بتاريخ 9/6/2009 بها معلومات قيمة أنصح بالاطلاع عليها.
***
لمحة موجزة عن مدينة جبنيانة
تقع جبنيانة في ساحل افريقية القديم وهي قديمة المنشأ وقد كانت تسمي "كبليانة" KEBELIANA وبتحريف متواصل في النطق مع العرب الفاتحين أصبحت تسمى جبنيانة وهو تحريف عرفته أسماء عدة مدن أخرى بافريقية. أما الأسطورة التي تناقلتها الذاكرة حول المرأة يانة بائعة الجبن(جبن-يانة) فهي على طرافتها لاتجد ما يدعمها في النصوص التاريخية أو في الواقع فالبلدة ليست اِسلامية التأسيس كما أسلفنا ولعل التحريف الذي ينطق به سكان مدينة صفاقس"جبنيانة" هو خير شاهد علي وجود اسم سابق لجبنيانة هو كبليانة. ويبدو أن البعض من سكان البلدة غادروها عند قدوم العرب المسلمين نحو صقلية أين أسسوا مدينة قبليانة GEBELIANA.
وقد عرفت البلدة شهرتها مع الولي الصالح سيدي أبي ...اِسحاق الجبنياني الذي كان جده قاضيا بصفاقس وهو الذي بنى جامع صفاقس وسورها بالطوب و بنى المحرس الذي يعرف بمحرس علي..و كانت له دنيا عريضة ومنازل كثيرة منها جبنيانة" ويفيدنا هذا الشاهد الذي أورده أبو القاسم اللبيدي في كتابه عن مناقب الشيج ابي اسحاق الجبنياني أن جبنيانة كانت من فئة المنازل والضيعات التي إنتقلت كملكيتها في العصر الأغلبي إلى كبار رجال الدولة وعرفت جبنيانة ونواحيها إزدهارا في القرن الثالث والرابع للهجرة وكانت محاطة بعدد من المدن والبلدان كلبيدة التي تقع شمال جبنيانة 'منطقة سيدي بن يزيد) وطرس أسباط التي كان يقيم بها الشيخ إبن عاصم مدرس أبي إسحاق وبليانة ورصفة وقصر زياد هذا دون نسيان المدينة الكبيرة ذات التاريخ المجيد ونقصد مدينة أكولا التي تسمى اليوم بطرية.
ولا يمكن في رأيي التأريخ لمدينة جبتيانة دون التعريض الى تاريخ الولي آبى اسحاق الجبنياني الذي يحظى بمكانة خاصة عند السكان و حباه المخيال الجماعي بمكانة رفيعة فيطلقون عنه لقب الزناد القادح والقطب الرباني والغيث الصمداني كما يشبهونه بالباي و بباي الأمحال وهي ألقاب متأخرة للبايات الحسينيين خلعها السكان على الولي من باب التقدير و التوقير.
وأبو اسحاق الجبنياني (280 هجري-369 هجري) هو ابراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم البكري من بكر بن وائل من ربيعة و أهله من أصحاب الخطط بالقيروان و قد تتلمذ على يد الشيخ ابن عاصم "في أيام النزهة يقيم بها الشهر وأكثر منه والى جانب جبنيانة قرية يقال لها طرس أسباط بها شيخ معلم يعرف بابن عاصم و قد شهر بالعبادة والبكاء..." وقد تعلم أبو اسحاق عليه و اختار الزهد والتعبد بعيدا عن ثروات والده المشكوك في حليتها وقد جمع الشيخ آبى اسحاق بين خصلة التكسب الحلال والبحث عن العلم.
وقد إستقر ردها كبيرا من حياته بجبنيانة يعلم الصبيان ويستقبل العلماء وإنصرف إلى الزهد والعبادة فكان
بسيطا في ملبسه ومأكله كما إمتهن الطب وإستفاد منه سكان المنطقة وقد إشتهر أبو إسحاق بتمسكه بالنذهب المالكي في مواجهة الدعوة الشيعية إذ كان من المتأثرين بمذهب الإمام سحنون وقد زادت شهرته بمرور الزمن فقال عنه تلميذه اللبيدي "لو فاخرنا بنو إسرائيل بعبادهم لفاخرناهم بالجبنياني" وقد توفي الشيخ عن سن متقدمة سنة 369 هـ / 980 م ودفن شرقي مقبرة جبنيانة كما ورد في المناقب ثم بمرور الزمن تكونت زاوية أبي إسحاق التي أستندت إلى أوقاف وأملاك عديدة ويمكن القول أن شهرة جبنيانة إنطلقت مع شهرة الولي وحتى نعود لتاريخ المدينة فنذكر بشيء من الأسف أن النواة القديمة للبلدة لم تعد موجودة وخصوصا مسجدها الجامع الذي وقع هدمه لأسباب تتعلق بالتهيئة العمرانية العصرية وتوسيع شوارع المدينة ومعه إندرس جزءا كبيرا من تاريخ البلدة فقد كان الجامع يتوسط البلدة ويقسمها إلى ثلاث "حومات كبرى" هي المحاجبة والقرافة وأولاد عبد الله ويعود هذا الجامع حسب الوصف المأثور إلى العهد الحفصي وكانت به جملة من الأعمدة الرخامية والتيجان الكورنثية المأخوذة من مواقع رومانية كما وجدت نقيشة في صحن الجامع تؤرخ لفترة من فترات توسيعه وترميمه وقد كان لهذا الجامع أوقافا عديدة يستغلها السكان على وجه المساقاة والمغارسة.
ويقوم نمط الحياة على الزراعة وعلى غراسة الأشجار المثمرة في طوق من الأجنة التي تحيط بالبلدة وتغرس بها أشجار اللوز والتين وباقي الغلال ثم نجد في توق ثاني حيازات الزيتون التي كانت تعود أغلبها إلى وقف الولي إبي إسحاق وكان السكان يحيونها على وجه المساقاة فيدفعون الثلث من المنتوج إلى الزاوية وتعتبر الزيتونة ثروة من الثروات الأساسية في المنطقة ويتعاطى سكان البلدة إلى جانب النشاط الزراعي نشاط تربية الماشية بصفة محدودة وكان اغلب السكان يمتلكون الإبل الذي كان أداة من أدوات التنقل والحرث والبعض من السكان كان يتعاطى نشاط الصيد البحري رغم أن البلاد لا تتاخم البحر مباشرة فقد كان عددها مباشرة فقد كان عدد من العائلات يمتلك "مصائد الشرفية" في شاطئ قصر زياد المعروف فيما بعد بشاطئ سيدي مسرة ومن أشهر هذه الشرفيات شرفية قصر زياد وكذلك شرفية سيدي أبي إسحاق التي كانت وقفا من أوقافه. كما إشتهرت البلدة بتعاطي الصناعات الحرفية وأبرزها حرفة النسيج التي تختص بها النسوة وتنسب الذاكرة الذاكرة الشعبية جذور إنتشارها إلى ولية صالحة تسمى الست نفيسة ويوجد مقامها قرب الولي أبي أسحاق ومن أبرز المنسوجات نجد المشطية والحرام وكليم المرقوم والكسية وهي من أفخر المنسوجات وأبهضها ويقطن سكان البلدة المنازل الحجرية المبنية على نمط عمران الساحل كما يخضعون إلى التجنيد العسكري في العصر الحديث وتقسم المقبرة حسب العائلات والحومات مما يدل على أن السكان كانوا من فئة الوطانة البلدية ونمط حياتهم هو نمط إستقرار وتحضر ولا علاقة لأصول السكان بالقبائل والعروش المحيطة ولو أنه بمرور الزمن إستقرت عدة عائلات من المثاليث ومن جهات أخرى بالبلد وإندمجت بسكانه.
وقد أشارت تقارير ضباط العسكر الفرنسي إلى مساهمة أهالي البلدة في مقاومة التدخل الإستعماري بالجهة سنة 1881 إذ ساهم قسم من السكان في معارك صفاقس في جويلية 1881 ويمكن القول أن جبنيانة عرفت في الفترة الإستعمارية حركية جديدة إبتدئت مع تركيز نواة للمدرسة العصرية سنة 1909 وأصبحت جبنيانة سنة 1914 مركزا للخلافة يقوم على شؤونها "خليفة أو كاهية" وهو تقسيم إداري يشبه المعتمدية اليوم ثم أصبحت جبنيانة سنة 1925 قيادة (ما يشبه الولاية اليوم) وعاصمة إدارية لعروش المثاليث وقد كان أول قائد بها هو العلامة حسن حسني عبد الوهاب والذي بقي بها من 1925 حتى 1928 وفي عهده تم بناء مقر القيادة المشهور بالدريبة وقد ساهم حسن حسني عبد الوهاب في إمضاء إتفاقية بين الأهالي وجمعية الأوقاف سنة 1928 بحضور رئيس الجمعية محمد سعد الله وتم هذا الإجتماع في مقام الولي وفيه إعتراف متبادل بين الأهالي والجمعية على الإشراف والإنتفاع بأوقاف الولي أبي إسحاق كما لعب حسن حسني عبد الوهاب دورا رئيسيا في نشر التعليم وترغيب أهالي الجهة في تدريس أبنائهم.
وقد عرفت البلدة بداية من الثلاثينات من القرن العشرين توسعا في نواتها العمرانية وتكونت بها عدة معاصر ودكاكين للتجار الصفاقسيين ومن أهم المستجدات بناء جامع ومدرسة قرآنية سنة 1931 قام بها المصلح محمد العش ولا زالت تنسب إليه اليوم كما تم سنة 1953 بناء مقر محكمة الناحية والمقر الجديد للمدرسة والقيادة وهو المعتمدية الحالية وفي ذلك إيذان بتوسع المدينة نحو الجنوب وهو ما تمت مواصلته بعد الإستقلال حيث أصبحت جبنيانة منذ 1957 بلدية وهنا بدأت صفحة جديدة من تاريخها.
بقلم د: عبد الواحد المكني
أستاذ التاريخ المعاصر
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس