صناعة تتجاوز الالفي سنة
تشتهر القيروان من بين ما تشتهر به بمرطباتها
الشهيرة المصنوعة في الأصل من السميد والتمر وزيت الزيتون والمعروفة بإسم
المقروض، والتي وإن انتشرت في الأسواق تعترضك رائحة طاجن الزيت الحامي الذي
تُقلى فيه أينما توجهت فإنّها خصيصة للمرأة القيروانية التي لا بدّ أن
تتعلّم سرّه الموروثة عن الجدات عبر العصور، ولا يخلو بيت قيرواني في العيد
من أطباق المقروض المتنوعة «الدياري» تاركين مقروض السوق للغرباء
والوافدين.
والمقروض حلوى قديمة نجد آثارها عند المؤرخ ابن الرقيق
القيرواني الذي قال في المقروض «إنه إذا قحط البربر وانتابتهم سنة جدباء
اشتروا تمورا وسميدا ثم عجنوه بزيت أخضر وقسموه كتلا وأصابع أفطروا عليها
كل يوم وربما أكلوا بلا توقيت كيف أمكن وضربوا عليه بجرعة من رايب فهي
عادتهم بدل الكسرة اليابسة»
ومن المهتمين بتاريخ هذه الحلوى الشاعر
والأديب حسين القهواجي الذي كتب عنها في كتابه سوق الوراقين فقال « ولكي
نتأكد من أهمية قطعة المقروض، فإننا نعلم جيدا أنها قطعة تتركب من ضدين
مختلفين مؤتلفين: سميد جاف يعصم به الآكل، ولكنه بتمر يسهل الهضم كما يلين
الطبع» ويضيف «والمقروض عرف تطورات كثيرة خلال العقود الماضية، ولكن أهم
نقلة عرفها المقروض كانت مع تنامي نفوذ الدولة العثمانية، فقد اكتسب بعدا
صناعيا واختص بأدوات وماعون نحاسي وصار له قالب منقوش نماذجه مستلهمة من
زخارف المنبر وأشكاله الهندسية المدهشة... أما المعين الذي يشكل القطعة فهو
مأخوذ من مربعات الجليز ذي البريق المعدني بواجهة محراب جامع عقبة، وبذلك
تكون المدينة القيروانية العتيقة، قد أثرت الحياة بمختلف مكوناتها... ولا
يكاد زائر يمر بالقيروان دون أن ينزل على قطع المقروض ضيفا مبجلا.. وهذا
الأمر كان مع شاه إيران رضا بهلوي عندما زار القيروان رفقة الزعيم الحبيب
بورقيبة، فقد كان على مأدبة الغداء بدار الوالي في شارع فاس ـ كما يؤرخ
لذلك القيروانيون ـ يلعق إصبعيه واحدة تلو الأخرى وهو يستلذه ويستزيد منه،
وهو يراه صنعا سلطانيا لا يمكن الفكاك منه.. وعندما حلت أميرة هولندا
بياتريس التي أصبحت ملكة الآن وزوجها الأمير كلاوس، بدار الشاذلي كميشة نهج
باب الخوخة، يروي بعض أعيان القيروان، أنها «غسلت أناملها من مرش الزهر
وتنشفت بكشمير ثم وردت على تناول المقروض بالإبهام والسبابة ولم تأنف
المرأة الرفيعة من تذوق هذا المرطب الغليظ في مكوناته وسط دار عربية الطراز
مبلطة بالمرمر محفوفة بمربعات الجليز وتشابيك النوافذ»
ومع تقدّم
الأزمنة وانفتاح الناس على مختلف المذاقات تفنّن الحلواني القيرواني في
تنويع منتوجه فتعددت الأصناف وأضيف إلى بعضها الجلجلان يلتصق بالعسل
المغمّس فيه مقروض التمر، ثمّ عُوّض التمر بمختلف الفواكه الجافة من لوز
وفستق وبوفريوة وحتّى زقوقو، ووقاية من أمراض الكوليسترول والسكري أصبحنا
نشاهد مقروضا أبيضا غير مقلي وغير مغمّس في «الشحور» ومقروضا بدقيق القمح
الأسمر أو النخالة لمريدي الريجيم ولكن يبقى مقروض التمر الموروث من البربر
أو الأتراك حسب بعض الروايات أفضل ما يتناوله الزائر لمحافظته على الأصالة
ولعدم تشبهه بباقي الحلويات كالبقلاوة وغيرها.
وصناعة المقروض صناعة
مهمة وتتميز بطاقة تشغيلية هامة يمكن أن تتجاوز الألفين كذلك أصبحت هذه
المهنة بفضل بعض الحرفيين مصدّرة فتجد المقروض القيرواني يُباع في
المساحات التجارية الكبرى في أوروبا وقد وصلت أحد أهم الحرفيين طلبية من
اليابان ولا يكاد يعود زائر المدينة دون أن يعود ببعض الأرطال المتنوعة من
هذه الحلوى الساحرة.
عادل النقاطي